English
القائمة

التعلم المؤسسي
Governance
الحوكمة المحلية
الحماية والدمج
الابتكار والفرص

التطبيع السائد في التعليم والأكاديميا

نتجنّب بمشروع "العيش بحكمة" التطبيع السائد في التعليم والأكاديميا ونركّز بدلا من ذلك على البيان والتبيين كجوهر

[ملاحظة: سأركّز في المدونات القليلة القادمة على موضوع اللغة]

نسمع ونقرأ الكثير حول التطبيع السياسي والاقتصادي والثقافي، ولكن لا نسمع ولا نقرأ عن أخطر وأخبث تطبيع والأوسع انتشارًا والأكثر خفاء ألا وهو التطبيع في مجال التعليم والأكاديميا، بل نعتبره تقدُّمًا وتطوّرًا. لا نسمع مثلا عن أي مدرسة أو جامعة بالدول العربية تبني منهاجها باللغة العربية على البيان والتبيين، كلمتان أعتبرهما أعمق ما يصف جوهر اللغة والمعرفة والثقافة بشتى أشكالها؛ نهملهما ونطبّع مع لغة ترتبط بواقع مصنَّع يحكمه مهنيون مرخّصون، لغة تهتم بالشكل والصورة وتغفل المعنى الذي يرتبط بالضرورة بسياق وفِعْل واندماج بالحياة وتأمّل فيها واجتهاد في تكوين معنى وبيان يجسدان ما نما وتبلور داخل الشخص. في عملية التطبيع هذه، تصبح essay مثلا مرجعيتنا بدلا من البيان والتبيين. تتحول اللغة المليئة بالجمالية والحكمة إلى ساعات معتمدة! من الصعب التفكّر بشيء يحقّر لغتنا أكثر من هذا التحويل الذي يحوّل كل شيء إلى سلعة: المعرفة والمدرّس والطالب الخ. لا يوجد أي مبرِّر لهذا سوى قناعتنا بضرورة التطبيع مع القبيلة الأورو-أمريكية. تصوروا لو كان التركيز عبر 12 سنة مدرسية على التعامل مع اللغة العربية كبيان وتبيين. نركّز في مشروع "العيش بحكمة" بجُهُد على أهمية البيان بحياة الإنسان، ففي البيان عنفوان، يُجسّدُ كرامةَ الإنسان وعُمْقَ غوره بالجذور، كما يجسّد تعدد المعنى. أود ذكر ما كتبه الجاحظ حول البيان: "بيانٌ لدى الشخص يبيّن المعاني القائمة في صدره والمتكونة في فكره. ما يُحْيي تلك المعاني، ذكرُهُ واستعمالُه لها مما يقرِّبُها من الفهم ويجلّيها للعقل ويجعل الخفي منها ظاهرا. وعلى قدر وضوح الدلالة وصواب الإشارة وحسن الاختصار ودقة المدخل يكون إظهار المعنى. وكلما كانت الدلالة أوضح وأفصح وكانت الإشارة أبين وأنور كان أنفع وأنجع. والدلالة الظاهرة على المعنى الخفي هو البيان؛ اسمٌ جامعٌ لكل شيء كشف قناع المعنى. فبأي شيء بلغتَ الإفهام وأوضحتَ عن المعنى، فذلك هو البيان. من هنا، المعاني ليس لها حدود، بينما الألفاظ معدودة محدودة"... الشفاء من التطبيع والعودة للأصول هو ما نسعى له في مشروع العيش بحكمة. من هنا، أقترح أن يُعْرَض إدراك الجاحظ للبيان بشكل واضح بمراكز الأميرة بسمة ال 52... وللحديث عن اللغة بقية بمدونات قادمة.

لغتان لا واحدة

مع بروز الدول القومية nation states ببداية القرن السادس عشر، بدأت تتكوّن بأوروبا، بالتصميم، لغات مصنّعة هدفها غزو عقول الرعية والسيطرة على إدراكهم وعلاقاتهم وتصرفاتهم؛ لغات تحكمها وتتحكم فيها مؤسسات رسمية ومهنيون مرخّصون، لغات تتجسّد بالكتب المقررة والأكاديمية. تكوّنت هذه اللغة أولا في الكنيسة الأوروبية بدءا بالقرن الرابع الميلادي، والتي انتبه وليم تنديل William Tyndal عام 1522 وهو بعمر 28 سنة بأن لغة الإنجيل الرسمي المتداول بانكلترا ليست لغة الناس والحياة بل لغة السلطة الدينية-السياسية التي سعت لإقناع الناس بأنهم يحتاجون لمؤسسات ومهنيين لفهم ما قاله المسيح الفلسطيني الذي لم يقل شيئا يصعب فهمه من قبل الناس. أراد ‘تنديل’ ترجمة الإنجيل إلى لغة انكليزية حيّة يستعملها الناس. طلب من الملك ‘هنري الثامن’ أن يسمح له بذلك. رفض الملك طلبه وهدّده بالقتل إذا فعل. هرب ‘تنديل’ إلى ألمانيا واختبأ فيها وترجم الإنجيل لغة انكليزية حية يستعملها الناس. أكمل الترجمة عام 1526 ونُشِرَ الإنجيل بلغته الجديدة وراج الكتاب بسرعة مما دعا الملك هنري أن يبحث عن ‘تنديل’، وعندما وجده ربطه بحبل وعلقه على خشبة وحرقه حيًّا عام 1536 عندما كان عمر ‘تنديل’ 42 سنة. لماذا فعل الملك هنري ذلك؟ باختصار، لأن ‘تنديل’ تجرأ وترجم الإنجيل للغة الناس مما أفقد السلطة سيطرتها على الرعية. من لا يتبع اللغة الرسمية يُعاقَب. في مشروع العيش بحكمة بجُهُد نركّز على اللغة الحية الغنية المتعافية حيث يُنْظَر لكل شخص على أنه شريك في تكوين معنى وبيان.

التركيز في مشروع العيش بحكمة على الواقع الحقيقي

يقضي الطلبة 12 سنة (من عمر 6 إلى 18) بعيدين عن الواقع الحقيقي الموجود بالخليقة والمكوَّن من أتربة حية غنية مغذية، يغيّبه واقعٌ مُصنَّع تحكمه مصطلحات مؤسسية وتصنيفات أكاديمية وتعريفات ونظريات يسيطر عليها أكاديميون وخبراء. نحتاج إلى خبراء بنواحٍ تقنية؛ لكن نحتاج إلى حكماء بنواح حياتية. الخبراء الذين يتدخّلون بنواحٍ حياتية يتركّز همّهم على إقناع الناس بأن الماضي متخلف وولى زمانه. التركيز في الحياة هو على البيان والتبيين. أروع أنواع البيان التحادث؛ هو أعجوبة الإنسان أينما كان وبصمةُ فكرِه وبيانِه ونطقِه. أكبر مخرِّب للتحادث، والبيان عامة، لغة كتب مقررة ومصطلحات مؤسسية وتصنيفات أكاديمية. الرفيق الأزلي للتحادث هو المجاورة التي تمثّل اللبْنة العضوية للمجتمع والوسيط الأعمق للتعلم. التحادث والمجاورة توأمان، مثنى لعله أعمق المثنيات؛ لا يمكن لأحدهما العيش دون الآخر. الاثنان مغيبان من المؤسسات عامة رغم أنهما أغلى ما نملكه كبشر ففيهما كرامتُنا وحريتُنا وصدقُنا. عبرهما يتمّ جدْلُ أنسجة بين الناس ومع الطبيعة والحضارة. التحادث نطقٌ وإصغاء (كلمتان ليس لهما رديف بالانكليزية بنفس بلاغتهما بالعربية؛ أقرب تعبير للإصغاء بالنكليزية listen and really listen). التحادث فنٌّ لا مثيل له، يجسّد تعددية وتلقائية لا يصلهما فن آخر. عندما يسألني الناس عن أفضل مدارس يرسلوا أولادهم لها، يكون ردّي: مدرسة لا يزال التحادث والمجاورة يشكلان جزءا حيًّا فيها، والتي من الصعب إيجادها هذه الأيام.

  • Back to top